سورة القيامة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القيامة)


        


قرأ جمهور السبعة: {لا أقسم بيوم القيامة. ولا أقسم بالنفس اللوامة} وقرأ ابن كثير والحسن بخلاف عنه والأعرج {لأقسم بيوم القيامة ولأقسم بالنفس}، فأما القراءة الأولى فاختلف في تأويلها فقال ابن جبير: لا استفتاح كلام بمنزلة ألا وأنشدوا على ذلك [المتقارب]
فلا وأبيك ابنة العامري *** لا يعلم القوم أني أفر
وقال أبو علي الفارسي: لا صلة زائدة كما زيدت في قوله {لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29] ويعترض هذا بأن هذه في ابتداء كلام. ولا تزاد لا وما نحوها من الحروف إلا في تضاعيف كلام. فينفصل عن هذا بأن القرآن كله كالسورة الواحدة وهو في معنى الاتصال فجاز فيه هذا، وقال الفراء: لا نفي لكلام الكفار وزجر لهم ورد عليهم، ثم استأنف على هذه الأقوال الثلاثة قوله: {أقسم}، ويوم القيامة أقسم الله به تنبيهاً منه لعظمه وهوله. وقوله تعالى: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} القول في لا على نحو ما تقدم، وأما القراءة الثانية فتحتمل أمرين، إما أن تكون اللام دخلت على فعل الحال، التقدير لأنا أقسم فلا تلحق لأن النون نون التوكيد إنما تدخل في الأكثر لتفرق بين فعل الحال والفعل المستقبل فهي تلزم المستقبل في الأكثر، وإما أن يكون الفعل خالصاً للاستقبال فكأن الوجه والأكثر أن تلحق النون إما الخفيفة وإما الثقيلة، لكن قد ذكر سيبويه أن النون قد تسقط مع إرادة الاستقبال وتغني اللام عنها كما تسقط اللام وتغني النون عنها وذلك في قول الشاعر: [الكامل]
وقتيل مرة أثأرن فإنه *** فرغ وإن قتيلهم لم يثأر
المراد لأثارن، وأما قوله {ولا أقسم بالنفس اللوامة} فقيل لا نافية، وإن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، ونفى أن يقسم بالنفس اللوامة نص عليه الحسن، وقد ذهب هذا المذهب قوم ممن قرأ {لا أقسم ولأقسم}، وذلك قلق وهو في القراءة الثانية أمكن وجمهور المتأولين على أن الله تعالى أقسم بالأمرين، واختلف الناس في {النفس اللوامة} ما معناه، فقال الحسن هي {اللوامة} لصاحبها في ترك الطاعة ونحوه، فهي على هذا ممدوحة، ولذلك أقسم الله تعالى بها، وقال ابن عباس: هي الفاجرة الجشعة {اللوامة} لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها فهي على هذا ذميمة وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها والنفس في الآية اسم جنس لنفوس البشر، وقال ابن جبير ما معناه: إن القسم بها هي اسم الجنس لأنها تلوم على الخير وعلى الشر، وقيل المراد نفس آدم لأنها لم تزل اللائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة.
قال القاضي أبو محمد: وكل نفس متوسطة ليست بالمطمئنة ولا بالأمارة بالسوء، فإنها لوامة في الطرفين مرة تلوم على ترك الطاعة، ومرة تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنت خلصت وصفت، وقوله تعالى: {أيحسب الإنسان} تقرير وتوبيخ، و{الإنسان} اسم جنس وهذه أقوال كانت لكفار قريش فعليها هو الرد، وقرأ جمهور الناس: {نجمع عظامَه} بالنون ونصب الميم من العظام، وقرأ قتادة {أن لن يجمع عظامُه} بالياء ورفع الميم من العظام، ومعنى ذلك في القيامة وبعد البعث من القبور، وقرأ أبو عمرو بإدغام العين ثم قال تعالى: {بلى} وهي إيجاب ما نفي، وبابها أن تأتي بعد النفي والمعنى بل يجمعها {قادرين} بنصب {قادرين} على الحال. وقرأ ابن أبي عبلة {قادرون} بالرفع، وقال القتبي: {نسوي بنانه} معناه نتقنها سوية، والبنان: الأصابع، فكأن الكفار لما استبعدوا جمع العظام بعد الفناء والإرمام، قيل لهم إنما تجمع ويسوى أكثرها تفرقاً أجزاء وهي عظام الأنامل ومفاصلها، وهذا كله عند البعث، وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: {نسوي بنانه} معناه نجعلها في حياته هذه بضعة أو عظماً واحداً كخف البعير لا تفاريق فيه، فكأن المعنى قادرين لأن في الدنيا على أن نجعلها دون تفرق، فتقل منفعته بيده، فكأن التقدير {بلى} نحن أهل أن نجمعها {قادرين} على إزالة منفعة بيده، ففي هذا توعد ما، والقول الأول أحرى مع رصف الكلام، ولكن على هذا القول جمهور العلماء، وقوله تعالى: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} قال بعض المتأولين: الضمير في {أمامه} عائد على {الإنسان}، ومعنى الآية أن الأنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبداً قدماً راكب رأسه ومطيع أمله ومسوفاً بتوبته، قاله مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي. وقال السدي: المعنى ليظلم على قدر طاقته، وقال الضحاك المعنى يركب رأسه في طلب الدنيا دائماً، وقوله تعالى: {ليفجر أمامه} تقديره لكن يفجر، وقال ابن عباس ما يقتضي أن الضمير في {أمامه} عائد على {يوم القيامة}، والمعنى أن الإنسان هو في زمن وجوده أمام يوم القيامة وبين يديه، ويوم القيامة خلفه فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة، وهو لا يعرف قدر الضرر الذي هو فيه، ونظيره قوله تعالى: {ليفجر} قول قيس بن سعد أردت لكيما يعرف الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود.
و {بل} في أول الآية هي إضراب على معنى الترك لا على معنى إبطال الكلام الأول، وقد تجيء بل لإبطال القول الذي قبلها، وسؤال الكافر {أيان يوم القيامة} هو على معنى التكذيب والهزء كما تقول لمحدث بأمر تكذبه متى يكون هذا؟ و{أيان} لفظة بمعنى متى، وهي مبينة لتضمنها معنى الاستفهام فأشبهت الحروف المتضمنة للمعاني.
وكان حقها أن تبنى على السكون، لكن فتحت النون لالتقاء الساكنين الألف وهي وقرأ أبو عمرو والحسن ومجاهد وقتادة والجحدري وعاصم والأعمش وأبو جعفر وشيبة {بِرق البصر} بكسر الراء بمعنى شخص وشق وحار. وقرأ نافع وعاصم بخلاف، وعبد الله بن أبي إسحاق وزيد بن ثابت ونصر بن عاصم {بَرق} بفتح الراء، بمعنى لمع وصار له بريق وحار عند الموت، والمعنى متقارب في القراءتين، وقال أبو عبيدة {برَق} بالفتح شق، وقال مجاهد هذا عند الموت، وقال الحسن هذا في يوم القيامة، وقرأ جمهور الناس: {وخسف القمرُ} على أنه فاعل، وقرأ أبو حيوة {خُسِف} بضم الخاء وكسر السين و{القمرُ} مفعول لما يسم فاعله. يقال خسف القمر وخسفه الله، وكذلك الشمس، وقال أبو عبيدة وجماعة من اللغويين الخسوف والكسوف بمعنى واحد، قال ابن أبي أويس: الكسوف ذهاب بعض الضوء، والخسوف ذهاب جميعه، وروي عن عروة وسفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا خسفت» وقوله تعالى: {وجمع الشمس والقمر} غلب عليه التذكير على التأنيث وقيل ذلك لأن تأنيث الشمس غير حقيقي، وقيل المراد بين الشمس والقمر، وكذلك قرأ ابن أبي عبلة. واختلف المتأولون في معنى الجمع بينهما فقال عطاء بن يسار: يجمعان فيقذفان في النار، وقيل في البحر، فتصير نار الله العظمى، وقيل يجمع الضواءن فيذهب بهما، وقرأ جمهور الناس {أين المَفر} بفتح الميم والفاء على المصدر أي أين الفرار، وقرأ ابن عباس والحسن وعكرمة وأيوب السخيتاني وكلثوم بن عياض ومجاهد ويحيى بن يعمر وحماد بن سلمة وأبو رجاء وعيسى وابن أبي إسحاق، {أين المَفِر} بفتح الميم وكسر الفاء عل معنى أين موضع الفرار، وقرأ الزهري: {أين المِفَر} بكسر الميم وفتح الفاء بمعنى أين الجيد من الفرار، و{كلا} زجر يقال للإنسان يومئذ ثم يعلن أنه {لا وزر} له أي ملجأ، وعبر المفسرون عن الوزر بالحبل، قال مطرف بن الشخير وغيره، وهو كان وزر فرار العرب في بلادهم، فلذلك استعمل، والحقيقة أنه الملجأ كان جبلاً أو حصناً أو سلاحاً أو رجلاً أو غيره، وقوله تعالى: {إلى ربك يومئذ المستقر} معناه إلى حكم ربك أو نحوه من التقدير و{المستقر} رفع بالابتداء وخبره في المقدر الذي يتعلق به المجرور المتقدم، تقدير الكلام المستقر ثابت أو كائن إلى ربك يومئذ، و{المستقر}: موضع الاستقرار، وقوله تعالى: {بما قدم وآخر} قسمة تستوي في كل عمل، أي يعلم بكل ما فعل ويجده محصلاً، قال ابن عباس وابن مسعود المعنى {بما قدم} في حياته {وأخر} من سنة يعمل بها بعده، وقال ابن عباس أيضاً: {بما قدم} من المعاصي {وأخر} من الطاعات، وقال زيد بن أسلم: {بما قدم} لنفسه من ماله وبما أخر منه للوارث، وقوله تعالى: {بل الإنسان} إضراب بمعنى الترك لا على معنى إبطال القول الأول، و{بصيرة} يحتمل أن يكون خبراً عن الإنسان ولحقته هاء التأنيث كما لحقت علامة ونسابة، والمعنى فيه وفي عقله وفطرته حجة وطليعة وشاهد مبصر على نفسه، والهاء للتأنيث، ويراد ب البصيرة جوارحه أو الملائكة الحفظة وهذا تأويل ابن عباس، والمعاذير هنا قال الجمهور: هي الأعذار جمع معذرة، وقال السدي والضحاك: هي الستور بلغة اليمن يقولون للستر المعذار، وقال الحسن: المعنى {بل الإنسان على نفسه} بلية ومحنة، كأنه ذهب إلى البصيرة التي هي طريقة الدم وداعية طلب الثأر وفي هذا نظر.


الضمير في {به} عائد على كتاب الله تعالى ولم يجر له ذكر، ولكن القرائن تبينه، فهذا كقوله تعالى: {توارت بالحجاب} [ص: 32]، وكقوله تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي} يعني النفس، واختلف المتأولون في السبب الموجب أن يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، فقال الشعبي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرصه على أداء الرسالة والاجتهاد في ذات الله تعالى ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يفضى إليه وحيه. وجاءت هذه الآية في هذا المعنى. وقال الضحاك. كان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق، فنزلت الآية في ذلك، وقال كثير من المفسرين وهو في صحيح البخاري عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه، فنزلت الآية بسبب ذلك وأعمله الله تعالى أنه يجمعه له في صدره، {وقرآنه} يحتمل أن يريد به وقراءته أي تقرأه أنت يا محمد، والقرآن مصدر كالقراءة ومنه قول الشاعر [حسان بن ثابت] في عثمان رضي الله عنه وأرضاه: [البسيط]
ضحوا بأشمط عنوان السجود به *** يقطّع الليل تسبيحاً وقرآنا
ويحتمل أن يريد {إن علينا جمعه} وتأليفه في صدر صدرك فهو مصدر من قولك قرأت أي جمعت، ومنه قولهم في المرأة التي لم تلد ما قرأت سلا قط، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم]: [الوافر]
ذراعي عيطل أدماء بكر *** هجان اللون لم تقرأ جنينا
وقوله تعالى: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} أي قراءة الملك الرسول عنا. وقوله تعالى: {فاتبع} يحتمل أن يريد بذهنك وفكرك، أي فاستمع قراءته وقاله ابن عباس، ويحتمل أن يريد {فاتبع} في الأوامر والنواهي، قاله ابن عباس أيضاً وقتادة والضحاك وقرأ أبو العالية: {قرته}، {فإذا قَرَته فاتبع قَرتَه} بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثالثة، وقوله تعالى: {ثم إن علينا بيانه}، قال قتادة وجماعة معه: معناه أن نبينه لك ونحفظكه، وقال كثير من المتأولين معناه أن تبينه أنت، وقال قتادة أيضاً وغيره معناه أن نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره، وقوله تعالى: {كلا بل تحبون العاجلة} رجوع إلى مخاطبة قريش، فرد عليهم وعلى أقوالهم في رد الشريعة بقوله: {كلا} ليس ذلك كما تقولون. وإنما أنتم قوم قد غلبتكم الدنيا بشهواتها، فأنتم تحبونها حباً تتركون معه الآخرة والنظر في امرها.
وقرأ الجمهور {تحبون} بالتاء على المخاطبة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن ومجاهد والجحدري وقتادة {يحبون} بالياء على ذكر الغائب وكذلك {يذرون} ولما ذكر الآخرة أخبر بشيء من حال أهلها بقوله: {وجوه} رفع بالابتداء وابتداء بالنكرة لأنها تخصصت بقوله {يومئذ} و{ناضرة} خبر {وجوه} وقوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} جملة هي في موضع خبر بعد خبر، وقال بعض النحويين: {ناضرة} نعت ل {وجوه}، و{إلى ربها ناظرة} خبر عن {وجوه}، فعلى هذا كثر تخصص الوجوه فحسن الابتداء بها. و{ناضرة} معناه ناعمة، والنضرة النعمة وجمال البشرة، قال الحسن: وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق، وقوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} حمل هذه الآية أهل السنة على أنها متضمنة رؤية المؤمنين لله تعالى، وهي رؤية دون محاذاة ولا تكييف ولا تحديد كما هو معلوم، موجود لا يشبه الموجودات كذلك هو لا يشبه المرئيات في شيء، فإنه ليس كمثله شيء لا إله إلا هو، وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حدثتكم عن الدجال أنه إعور وأن ربكم ليس بأعور وأنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته»، وقال الحسن: تنظرون إلى الله تعالى بلا إحاطة، وأما المعتزلة الذين ينفون رؤية الله تعالى، فذهبوا في هذه الآية إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة أو إلى ثوابه أو ملكه، فقدروا مضافاً محذوفاً، وهذا وجه سائغ في العربية كما تقول، فلا ناظر إليك في كذا، أي إلى صنعك في كذا، والرواية إنما تثبتها بأدلة قاطعة غير هذه الآية، فإذا ثبتت حسن تأويل أهل السنة في هذه الآية وقوي، وذهب بعض المعتزلة في هذه الآية إلى أن قوله {إلى} ليست بحرف الجر وإنما هي إلى واحد الآلاء فكأنه قال نعمة ربها منتظرة، أو {ناظرة} من النظر بالعين، ويقال نظرتك بمعنى انتظرتك، ومنه قول الحطيئة: [البسيط]
وقد نظرتكم أبناء عائشة *** للخمس طال بها حبسي وتبساسي
والتبساس أن يقال للناقة بس بس لتدر على الحالب، وفسر أبو عبيدة في غريبه هذا البيت على رواية أخرى وهي: طال بها حوزي وتنساسي بالنون وهو السير الشديد فتأمله، والباسرة العابسة المغمومة النفوس. والبسور أشد العبوس، وإنما ذكر تعالى الوجوه لأنه فيها يظهر ما في النفس من سرور أو غم، والمراد أصحاب الوجوه، وقوله تعالى: {تظن أن يفعل} إن جعلناه بمعنى توقن فهو لم يقع بعد على ما بيناه وأن جعلنا الظن هنا على غلبته، فذلك محتمل، والفاقرة: المصيبة التي تكسر فقار الإنسان، قال ابن المسيب: هي قاصمة الظهر، وقال أبو عبيدة: هي من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار، وقوله تعالى: {كلا إذا بلغت} زجر آخر لقريش وتذكير لهم بموطن من مواطن الهول وأمر الله تعالى الذي لا محيد لبشر عنه وهي حالة الموت والمنازعة التي كتبها الله على كل حيوان، و{بلغت} يريد النفس، و{التراقي} ترقوة وهي عظام أعلى الصدر، ولكل أحد ترقوتان، لكن من حيث هذا الأمر في كثير من جمع، إذ النفس المرادة اسم جنس، و{التراقي} هي موازية للحلاقيم، فالأمر كله كناية عن حال الحشرجة ونزاع الموت، يسره الله علينا بمة، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: {من راق} فقال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو قلابة: معناه من يرقى ويطب ويشفى ونحو هذا مما يتمناه أهل المريض، وقال ابن عباس أيضاً وسليمان التيمي ومقاتل وابن سليمان: هذا القول للملائكة: والمعنى من يرقى بروحه، أي يصعد إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقرأ حفص عن عاصم بالوقف على {من} ويبتدئ {راق} وأدغم الجمهور، قال أبو علي: لا أعرف وجه قراءة عاصم، وكذلك قرأ {بل ران} وقوله تعالى: {وظن أنه الفراق} يريد وتيقن المريض أنه فراق الأحبة والأهل والمال والحياة، وهذا يقين فيما لم يقع بعد ولذلك استعملت فيه لفظة الظن، وقرأ ابن عباس {أيقن أنه الفراق}، وقال في تفسيره ذهب الظن واختلف في معنى قوله {والتفت الساق بالساق}، فقال ابن عباس والحسن والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد هذه استعارة لشدة كرب الدنيا في آخر يوم منها وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها لأنه بين الحالين قد أختلطا له، وهذا كما تقول شمرت الحرب عن ساق، وعلى بعض التأويلات في قوله تعالى:
{يوم يكشف عن ساق} [القلم: 42] وقال ابن المسيب والحسن: هي حقيقة، والمراد ساق الميت عند تكفينه أي لفهما الكفن، وقال الشعبي وأبو مالك وقتادة: هو التفافهما بشدة المرض لأنه يقبض ويبسط ويركب هذا على هذا، وقال الضحاك: المراد أسوق حاضريه من الإنس والملائكة لأن هؤلاء يجهزون روحه إلى السماء وهؤلاء بدنه إلى قبره، وقوله تعالى: {إلى ربك} معناه إلى حكم ربك وعدله، فإما إلى جنة وإما إلى نار، و{المساق} مصدر من السوق.


قال جمهور المتأولين: هذه الآية كلها إنما نزلت في أبي جهل بن هشام.
قال القاضي أبو محمد: ثم كادت هذه الآية أن تصرح له في قوله تعالى: {يتمطى} فإنها كانت مشية بني مخزوم، وكان أبو جهل يكثر منها، وقوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} تقديره فلم يصدق ولم يصل، وهذا نحو قول الشاعر [طرفة بن العبد]: [الطويل]
فأي خميس فإنا لا نهابه *** وأسيافنا يقطرن من كبشه دما
وقول الآخر [أبي خيراش الهذلي]: [الرجز]
إن تغفر اللهم تغفر جمّا *** وأي عبد لك لا ألمَّا
{فلا} في الآية عاطفة، و{صدق} معناه برسالة الله ودينه، وذهب قوم إلى أنه من الصدقة، والأول أصوب، و{يتمطى} معناه يمشي المطيطى وهي مشية بتبختر قال زيد بن أسلم: كانت مشية بني مخزوم، وهي مأخوذة من المطا وهو الظهر لأنه يتثنى فيها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مشت أمتي المطيطى وخدمتهم الروم وفارس سلط بعضهم على بعض» وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أبي جهل. وقوله تعالى: {أولى لك} وعيد ثان ثم كرر ذلك تأكيداً، والمعنى {أولى لك} الازدجار والانتهاء وهو مأخوذ من ولى، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجراً، ومنه قوله تعالى: {فأولى لهم طاعة} [محمد: 20]، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبب أبا جهل يوماً في البطحاء وقال له: «إن الله يقول لك {أولى لك فأولى}»، فنزل القرآن على نحوها. وفي شعر الخنساء: [المتقارب]
سئمت بنفسي كل الهموم *** فأولى لنفسي أولى لها
وقوله تعالى: {أيحسب} توقيف وتوبيخ، و{سدى} معناه مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، ثم قرر تعالى على أحوال ابن آدم في بدايته التي إذا تؤملت لم ينكر معها جواز البعث من القبور عاقل. وقرأ الجمهور: {ألم يك} بالياء من تحت، وقرأ الحسن: {ألم تك} بالتاء من فوق والنطفة: القطعة من الماء. يقال ذلك للقليل والكثير، والمني معروف، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وأبو عمرو بخلاف وابن محيصن والجحدري وسلام ويعقوب: {يمنى}بالياء، يراد بذلك المني، ويحتمل أن يكون يمنى من قولك أمنى الرجل، ويحتمل أن يكون من قولك منى الله الخلق، فكأنه قال: من مني تخلق، وقرأ جمهور السبعة والناس. {تمنى} بالتاء، يراد بذلك النطفة، و{تمنى} يحتمل الوجهين اللذين ذكرت، والعلقة: القطعة من الدم، لأن الدم هو العلق، وقوله تعالى: {فخلق فسوى} معناه فخلق الله منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة فسواه شخصاً مستقلاً، وفي مصحف ابن مسعود: {يخلق} بالياء فعلاً مستقبلاً، و{الزوجين} النوعين، ويحتمل أن يريد المزدوجين من البشر، ثم وقف تعالى توقيف التوبيخ وإقامة الحجة بقوله: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} وقرأ الجمهور بفتح الياء الأخيرة من{يحييَ} ، وقرأ طلحة بن مصرف وسليمان والفياض بن غزوان بسكونها، هي تنحذف من اللفظ لسكون اللام من {الموتى}، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: «سبحانك اللهم وبحمدك وبلى»، ويروى أنه كان يقول: بلى فقط.
نجز تفسير سورة {القيامة} والحمد لله رب العالمين.